الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (134): {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}فيه أربع مسائل:الأولى: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} هذا من صفة المتقين الذين أعدت لهم الجنة، وظاهر الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه. و{السَّرَّاءِ} اليسر {وَالضَّرَّاءِ} العسر، قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل.وقال عبيد بن عمير والضحاك: السراء والضراء الرخاء والشدة. ويقال في حال الصحة والمرض.وقيل: في السراء في الحياة، وفي الضراء يعني يوصي بعد الموت.وقيل: في السراء في العرس والولائم، وفي الضراء في النوائب والمأتم.وقيل: في السراء النفقة التي تسركم، مثل النفقة على الأولاد والقرابات، والضراء على الاعداء. ويقال: في السراء ما يضيف به الفتى ويهدي إليه. والضراء ما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم. قلت:- والآية تعم. ثم قال تعالى: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ} وهى المسألة: الثانية: وكظم الغيظ رده في الجوف، يقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه، وكظمت السقاء أي ملائه وسددت عليه، والكظامة ما يسد به مجرى الماء، ومنه الكظام للسير الذي يسد به فم الزق والقربة. وكظم البعير جرته إذا ردها في جوفه، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه: كظم، حكاه الزجاج. يقال: كظم البعير والناقة إذا لم يجترا، ومنه قول الراعي:الحقيل: موضع. والحقيل: نبت. وقد قيل: إنها تفعل ذلك عند الفزع والجهد فلا تجتر، قال أعشى باهلة يصف رجلا نحارا للإبل فهي تفزع منه: ومنه: رجل كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غما وحزنا.وفي التنزيل: {وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]. {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58]. {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48]. والغيظ أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان لكن فرقان ما بينهما، أن الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما لأبد، ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم. وقد فسر بعض الناس الغيظ بالغضب، وليس بجيد. والله أعلم.الثالثة: قوله تعالى: {وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ} العفو عن الناس أجل ضروب فعل الخير، حيث يجوز للإنسان أن يعفو وحيث يتجه حقه. وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه. واختلف في معنى: {عَنِ النَّاسِ}، فقال أبو العالية والكلبي والزجاج: {وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ} يريد عن المماليك. قال ابن عطية: وهذا حسن على جهه المثال، إذ هم الخدمة فهم يذنبون كثيرا والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسر به. وروي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله تعالى: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ}. قال لها: قد فعلت. فقالت: أعمل بما بعده {وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ}. فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى. وروي عن الأحنف بن قيس مثله.وقال زيد ابن سلم: {وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ} عن ظلمهم وإساءتهم. وهذا عام، وهو ظاهر الآية.وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عند ذلك: «إن هؤلاء من أمتي قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت». فمدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم فقال: {وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]، وأثنى على الكاظمين الغيظ بقوله: {وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ}، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك. ووردت في كظم الغيظ والعفو عن الناس وملك النفس عند الغضب أحاديث، وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».وقال عليه السلام: «ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله».وروى أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أشد من كل شي؟ قال: «غضب الله». قال فما ينجي من غضب الله؟ قال: «لا تغضب». قال العرجي: وقال عروة بن الزبير في العفو: وروى أبو داود وأبو عيسى الترمذي عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء» قال: هذا حديث حسن غريب.وروى أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان أجره على الله فليدخل الجنة فيقال من ذا الذي أجره على الله فيقوم العافون عن الناس يدخلون الجنة بغير حساب». ذكره الماوردي.وقال ابن المبارك: كنت عند المنصور جالسا فأمر بقتل رجل، فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله عز وجل من كانت له يد عند الله فليتقدم فلا يتقدم إلا من عفا عن ذنب»، فأمر بإطلاقه.الرابعة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي يثيبهم على إحسانهم. قال سري السقطي: الإحسان أن تحسن وقت الإمكان، فليس كل وقت يمكنك الإحسان، قال الشاعر: وقال أبو العباس الجماني فأحسن: وقد مضى في البقرة القول في المحسن والإحسان فلا معنى للإعادة. .تفسير الآية رقم (135): {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)}فيه سبع مسائل:الأولى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا، هم دون الصنف الأول فألحقهم به برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون. قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان التمار- وكنيته أبو مقبل- أتته امرأة حسناء باع منها تمرا، فضمها إلى نفسه وقبلها فندم على ذلك، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية.وذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له- ثم تلا هذه الآية- {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الآية، والآية الأخرى: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه} [النساء: 110]». وخرجة الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا عام. وقد تنزل الآية بسبب خاص ثم تتناول جميع من فعل ذلك أو أكثر منه. وقد قيل: إن سبب نزولها أن ثقفيا خرج في غزاة وخلف صاحبا له أنصاريا على أهله، فخانه فيها بأن اقتحم عليها فدفعت عن نفسها فقبل يدها، فندم على ذلك فخرج يسيح في الأرض نادما تائبا، فجاء الثقفي فأخبرته زوجته بفعل صاحبه، فخرج في طلبه فأتى به إلى أبي بكر وعمر رجاء أن يجد عندهما فرجا فوبخاه، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بفعله، فنزلت هذه الآية. والعموم أولى للحديث. وروي عن ابن مسعود أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا، حيث كان المذنب منهم تصبح عقوبته مكتوبة على باب داره، وفي رواية: كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: أجدع أنفك، أقطع أذنك، أفعل كذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل. ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية. والفاحشة تطلق على كل معصية، وقد كثر اختصاصها بالزنا حتى فسر جابر بن عبد الله والسدي هذه الآية بالزنا. و{أَوْ} في قوله: {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} قيل هي بمعنى الواو، والمراد ما دون الكبائر. {ذَكَرُوا اللَّهَ} معناه بالخوف من عقابه والحياء منه. الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله. وقيل تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، قاله الكلبي ومقاتل. وعن مقاتل أيضا: ذكروا الله باللسان عند الذنوب. {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} أي طلبوا الغفران لأجل ذنوبهم. وكل دعاء فيه هذا المعنى أو لفظه فهو استغفار. وقد تقدم في صدر هذه السورة سيد الاستغفار، وأن وقته الأسحار. فالاستغفار عظيم وثوابه جسيم، حتى لقد روى الترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من قال استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له. وإن كان قد فر من الزحف».وروى مكحول عن أبي هريرة قال: ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارا من أبي هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار. قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان. فأما من قال بلسانه: استغفر الله، وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لاحقة بالكبائر. وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.قلت: هذا يقوله في زمانه، فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكبا على الظلم! حريصا عليه لا يقلع، والسبحة في يده زاعما أنه يستغفر الله من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف.وفي التنزيل {وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة: 231]. وقد تقدم.الثانية: قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} أي ليس أحد يغفر المعصية ولا يزيل عقوبتها إلا الله. {وَلَمْ يُصِرُّوا} أي ولم يثبتوا ويعزموا على ما فعلوا.وقال مجاهد: أي ولم يمضوا.وقال معبد بن صبيح: صليت خلف عثمان وعلي إلى جانبي، فأقبل علينا فقال: صليت بغير وضوء ثم ذهب فتوضأ وصلي. {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. الإصرار هو العزم بالقلب على الامر وترك الإقلاع عنه. ومنه صر الدنانير أي الربط عليها، قال الحطيئة يصف الخيل:أي ثبتت على عدوها.وقال قتادة: الإصرار الثبوت على المعاصي، قال الشاعر: قال سهل بن عبد الله: الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر هالك، والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقول: أتوب غدا، وهذا دعوى النفس، كيف يتوب غدا وغدا لا يملكه!.وقال غير سهل: الإصرار هو أن ينوي أن يتوب فإذا نوى التوبة النصوح خرج عن الإصرار. وقول سهل أحسن. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا توبة مع إصرار».الثالثة: قال علماؤنا: الباعث على التوبة وحل الإصرار إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين، وما وصفه من عذاب النار وتهدد به العاصين، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رغبا ورهبا، والرغبة والرهبة ثمرة الخوف والرجاء، يخاف من العقاب ويرجو الثواب، والله الموفق للصواب. وقد قيل: إن الباعث على ذلك تنبيه إلهي ينبه به من أراد سعادته، لقبح الذنوب وضررها إذ هي سموم مهلكة.قلت: وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى، فإن الإنسان لا يتفكر في وعد الله ووعيده إلا بتنبيهه، فإذا نظر العبد بتوفيق الله تعالى إلى نفسه فوجدها مشحونة بذنوب اكتسبها وسيئات اقترفها، وانبعث منه الندم على ما فرط، وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى صدق عليه أنه تائب، فإن لم يكن كذلك كان مصرا على المعصية وملازما لأسباب الهلكة. قال سهل بن عبد الله: علامة التائب أن يشغله الذنب على الطعام والشراب، كالثلاثة الذين خلفوا.الرابعة: قوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فيه أقوال. فقيل: أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها. قال النحاس: وهذا قول حسن.وقيل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أني أعاقب على الإصرار.وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم إن تابوا تاب الله عليهم.وقيل: {يَعْلَمُونَ} أنهم إن استغفروا غفر لهم.وقيل: {يَعْلَمُونَ} بما حرمت عليهم، قاله ابن إسحاق.وقال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الإصرار ضار، وأن تركه خير من التمادي.وقال الحسن بن الفضل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن لهم ربا يغفر الذنب.قلت: وهذا أخذه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: «أذنب عبدا ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي- فذكر مثله مرتين، وفي آخره: اعمل ما شئت فقد غفرت لك» أخرجه مسلم.وفية دليل على صحة التوبة بعد نقضها بمعاودة الذنب، لأن التوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه، لأنه أضاف إلى الذنب نقض التوبة، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه أضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذنوب سواه. وقوله في آخر الحديث: «اعمل ما شئت» أمر معناه الإكرام في أحد الأقوال، فيكون من باب قوله: {ادْخُلُوها بِسَلامٍ} [الحجر: 46]. وآخر الكلام خبر عن حال المخاطب بأنه مغفور له ما سلف من ذنبه، ومحفوظ إن شاء الله تعالى فيما يستقبل من شأنه. ودلت الآية والحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» أخرجاه في الصحيحين. وقال: وقال آخر: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم». وهذه فائدة اسم الله تعالى الغفار والتواب، على ما بيناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.الخامسة: الذنوب التي يتاب منها إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره، وليس مجرد الايمان نفس توبة، وغير الكفر إما حق لله تعالى، وإما حق لغيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك، غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة والصوم، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الايمان والظهار وغير ذلك، وأما حقوق الأدميين فلا بد من إيصالها إلي مستحقيها، فإن لم يوجدوا تصدق عنهم، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لاعسار فعفو الله مأمول، وفضله مبذول، فكم ضمن من التبعات وبدل من السيئات بالحسنات. وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى.السادسة: ليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه أن يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه. وقد تأول كثير من الناس فيما ذكر شيخنا أبو محمد عبد المعطي الإسكندراني رضي الله عنه أن الامام المحاسبي رحمه الله يرى أن التوبة من أجناس المعاصي لا تصح، وأن الندم على جملتها لا يكفي، بل لأبد أن يتوب من كل فعل بجارحته وكل عقد بقلبه على التعيين. ظنوا ذلك من قوله، وليس هذا مراده، ولا يقتضيه كلامه، بل حكم المكلف إذا عرف حكم أفعاله، وعرف المعصية من غيرها، صحت منه التوبة من جملة ما عرف، فإنه إن لم يعرف كون فعله الماضي معصية لا يمكنه أن يتوب منه لا على الجملة ولا على التفصيل، ومثاله رجل كان يتعاطى بابا من أبواب الربا ولا يعرف أنه ربا فإذا سمع كلام الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] عظم عليه هذا التهديد، وظن أنه سالم من الربا، فإذا علم حقيقة الربا ألان، ثم تفكر فيما مضى من أيامه وعلم أنه لابس منه شيئا كثيرا في أوقات متقدمة، صح أن يندم عليه ألان جملة، ولا يلزمه تعيين أوقاته، وهكذا كل ما واقع من الذنوب والسيئات كالغيبة والنميمة وغير ذلك من المحرمات التي لم يعرف كونها محرمة، فإذا فقه العبد وتفقد ما مضى من كلامه تاب من ذلك جملة، وندم على ما فرط فيه من حق الله تعالى، وإذا استحل من كان ظلمه فحالله على الجملة وطابت نفسه بترك حقه جاز، لأنه من باب هبة المجهول، هذا مع شح العبد وحرصه على طلب حقه، فكيف بأكرم الأكرمين المتفضل بالطاعات وأسبابها والعفو عن المعاصي صغارها وكبارها. قال شيخنا رحمه الله تعالى: هذا مراد الامام، والذي يدل عليه كلامه لمن تفقده، وما ظنه به الظان من أنه لا يصح الندم إلا على فعل فعل وحركة حركة وسكنة سكنة على التعيين هو من باب تكليف مالا يطاق، الذي لم يقع شرعا وإن جاز عقلا، ويلزم عنه أن يعرف كم جرعة جرعها في شرب الخمر، وكم حركة تحركها في الزنا، وكم خطوة مشاها إلى محرم، وهذا مالا يطيقه أحد، ولا تتأتى منه توبة على التفصيل. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان من أحكام التوبة وشروطها في النساء وغيرها إن شاء الله تعالى.السابعة: في قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا} حجة واضحة ودلالة قاطعة لما قال سيف السنة، ولسان الامة القاضي أبو بكر بن الطيب: أن الإنسان يؤاخذ بما وطن عليه بضميره، وعزم عليه بقلبه من المعصية.قلت: وفي التنزيل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] وقال: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20]. فعوقبوا قبل فعلهم بعزمهم وسيأتي بيانه.وفي البخاري: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه». فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم وألغى إظهار السلاح، وأنص من هذا ما خرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري وصححه مرفوعا: «إنما الدنيا لأربعة نفر رجل أعطاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم الله فيه حقا فهذا أفضل المنازل، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فأجرهما سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في مال بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوزرهما سواء». وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ولا يلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهم الإنسان به وإن وطن عليه لا يؤاخذ به. ولا حجة له في قول عليه السلام: «من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فإن عملها كتبت سيئة واحدة» لأن معنى: «فلم يعملها» فلم يعزم على عملها بدليل ما ذكرنا، ومعنى: «فإن عملها» أي أظهرها أو عزم عليها بدليل ما وصفنا. وبالله توفيقنا.
|